فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر ما يحزن من السر لكونه اختصاصًا عن الجليس بالمقال فينشأ عنه ظن الكدر وتباعد القلوب، أتبعه الاختصاص بالمجلس الذي هو مباعدة الأجسام اللازم لها من الظن ما لزم من الاختصاص بالسر في الكلام فينشأ عنه الحزن، معلمًا لهم بكمال رحمته وتمام رأفته بمراعاة حسن الأدب بينهم وإن كان من أمور العادة دون أحكام العبادة، فقال مخاطبًا لأهل الدرجة الدنيا في الإيمان لأنهم المحتاجون لمثل هذا الأدب: {يا أيها الذين آمنوا} حداهم بهذا الوصف على الامتثال {إذا قيل لكم} أي من أيّ قائل كان فإن الخير يرغب فيه لذاته: {تفسحوا} أي توسعوا أي كلفوا أنفسكم في إيساع المواضع {وفي المجلس} أي الجلوس أو مكانه لأجل من يأتي فلا يجد مجلسًا يجلس فيه، والمراد بالمجلس جنس المكان الذي هم ماكثون به بجلوس أو قيام في صلاة أو غيرها لأنه أهل لأن يجلس فيه.
وذلك في كل عصر، ومجلس النبي صلى الله عليه وسلم أولى بذلك، وقراءة عاصم بالجمع موضحة لإرادة الجنس {فافسحوا} أي وسعوا فيه عن سعة صدر {يفسح الله} أي الذي له الأمر كله والعظمة الكاملة {لكم} في كل ما تكرهون ضيقه من الدارين.
ولما كانت التوسعة يكفي فيها التزحزح مع دوام الجلوس تارة وأخرى تدعو الحاجة فيها إلى القيام للتحول من مكان إلى آخر قال: {وإذا قيل} أيّ من قائل كان- كما مضى- إذا كان يريد الإصلاح والخير {انشزوا} أي ارتفعوا وانهضوا إلى الموضع الذي تؤمرون به أو يقتضيه الحال للتوسعة أو غيرها من الأوامر كالصلاة أو الجهاد وغيرهما {فانشزوا} أي فارتفعوا وانهضوا {يرفع الله} الذي له جميع صفات الكمال، عبر بالجلالة وأعاد إظهارها موضع الضمير ترغيبًا في الامتثال لما للنفس من الشح بما يخالف المألوف {الذين آمنوا} وإن كانوا غير علماء {منكم} أيها المأمورون بالتفسح السامعون للأوامر، المبادرون إليها في الدنيا والآخرة بالنصر وحسن الذكر بالتمكن في وصف الإيمان الموجب لعلو الشأن بطاعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم في سعة صدورهم بتوسعتهم لإخوانهم.
ولما كان المؤمن قد لا يكون من المشهورين بالعلم قال: {والذين} ولما كان العلم في نفسه كافيًا في الإعلاء من غير نظر إلى مؤت معين، بنى للمفعول قوله: {أوتوا العلم} أي وهم مؤمنون {درجات} درجة بامتثال الأمر وأخرى بالإيمان، ودرجة بفضل علمهم وسابقتهم- روى الطبراني وأبو نعيم في كتاب العلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من جاءه أجله وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام لم يفضله النبيون إلا بدرجة واحدة»، رواه الدارمي وابن السني في رياضة المتعلمين عن الحسن غير منسوب، قال شيخنا: فقيل: هو البصري فيكون مرسلًا، وعن الزبير: العلم ذكر فلا يحبه إلا ذكور الرجال.
وكلما كان الإنسان أعلم كان أذكر، ولعله ترك التقييد بـ (من) في هذا وإن كانت مرادة ليفهم أن العلم يعلي صاحبه مطلقًا، فإن كان مؤمنًا عاملًا بعلمه كان النهاية، وإن كان عاصيًا كان أرفع من مؤمن عاص وعار عن العلم، وإن كان كافرًا كانت رفعته دنيوية بالنسبة إلى كافر لا يعلم، ودل على ذلك بختم الآية بقوله مرغبًا مرهبًا: {والله} أي والحال أن المحيط بكل شيء قدرة وعلمًا {بما تعملون} أي حال الأمر وغيره {خبير} أي عالم بظاهره وباطنه، فإن كان العلم مزينًا بالعمل بامتثال الأوامر واجتناب النواهي وتصفية الباطن كانت الرفعة على حسبه، وإن كان على غير ذلك فكذلك، وقدم الجار ومدخوله وإن كان علمه سبحانه بالأشياء كلها على حد سواء تنبيهًا على مزيد الاعتناء بالأعمال، لاسيما الباطنة من الإيمان والعلم اللذين هما الروح الأعظم، لأن المقام لنزول الإنسان عن مكانه بالتفسح والانخفاض والارتفاع، ولا يخفى ما في ذلك من حظ النفس الحامل على الجري مع الدسائس، فكان جديرًا بمزيد الترهيب، وسبب الآية أن أهل العلم لما كانوا أحق بصدر المجلس لأنهم أوعى لما يقول صاحب المجلس، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ليليني أولو الأحلام منكم والنهى»، وكان صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء أناس من أهل بدر منهم ثابت بن قيس بن شماس وقد سبق غيرهم إلى المجلس فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم سلموا على القوم فردوا عليهم فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفعلوا فقال لمن حوله من غير أهل بدر: قم يا فلان وأنت يا فلان، فأقام من المجلس بقدر القادمين من أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهية في وجوههم، فقال المنافقون: ألستم تزعمون أن صاحبكم يعدل، فوالله ما عدل على هؤلاء، إن قومًا أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من نبيهم فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه مكانهم، فأنزل الله هذه الآية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن افسحوا يفسح الله لكم» رواه مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقال الحسن: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قاتل المشركين فصف أصحابه رضي الله عنهم للقتال تشاحوا على الصف الأول فيقول الرجل لإخوانه: توسعوا لنلقى العدو فنصيب الشهادة، فلا يوسعون له رغبة منهم في الجهاد والشهادة، فأنزل الله هذه الآية، وهي دالة على أن الصالح إن كره مجاورة فاسق منع من مجاورته لأنه يؤذيه ويشغله عن كثير من مهماته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» وقال: «أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة فإن جار البادية يتحول» وقال: «شر الناس من لا يآمن جاره بوائقه» فقال تعالى معظمًا لرسوله صلى الله عليه وسلم وناهيًا عن إبرامه صلى الله عليه وسلم بالسؤال والمناجاة، ونافعًا للفقراء والتمييز بين المخلص والمنافق ومحب الآخرة ومحب الدنيا. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله تعالى: {يا أيها الذين ءَامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أنه تعالى لما نهى عباده المؤمنين عما يكون سببًا للتباغض والتنافر، أمرهم الآن بما يصير سببًا لزيادة المحبة والمودة، وقوله: {تَفَسَّحُواْ فِي المجالس} توسعوا فيه وليفسح بعضكم عن بعض، من قولهم: افسح عني، أي تنح، ولا تتضاموا، يقال: بلدة فسيحة، ومفازة فسيحة، ولك فيه فسحة، أي سعة.
المسألة الثانية:
قرأ الحسن وداود بن أبي هند: {تفاسحوا}، قال ابن جني: هذا لائق بالغرض لأنه إذا قيل: {تفسحوا}، فمعناه ليكن هناك تفسح، وأما التفاسح فتفاعل، والمراد هاهنا المفاعلة، فإنها تكون لما فوق الواحد كالمقاسمة والمكايلة، وقرئ: {فِي المجلسِ} قال الواحدي: والوجه التوحيد لأن المراد مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وهو واحد، ووجه الجمع أن يجعل لكل جالس مجلس على حدة، أي موضع جلوس.
المسألة الثالثة:
ذكروا في الآية أقوالًا: الأول: أن المراد مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتضامون فيه تنافسًا على القرب منه، وحرصًا على استماع كلامه، وعلى هذا القول ذكروا في سبب النزول وجوهًا الأول: قال مقاتل بن حيان: كان عليه السلام يوم الجمعة في الصفة، وفي المكان ضيق، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناس من أهل بدر، وقد سبقوا إلى المجلس، فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرون أن يوسع لهم، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام وشق ذلك على الرسول، فقال لمن حوله من غير أهل بدر: قم يا فلان، قم يا فلان، فلم يزل يقيم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه، وشق ذلك على من أقيم من مجلسه، وعرفت الكراهية في وجوههم، وطعن المنافقون في ذلك، وقالوا: والله ما عدل على هؤلاء، إن قومًا أخذوا مجالسهم، وأحبوا القرب منه فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه، فنزلت هذه الآية يوم الجمعة الثاني: روي عن ابن عباس أنه قال: نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس بن الشماس، وذلك أنه دخل المسجد وقد أخذ القوم مجالسهم، وكان يريد القرب من الرسول عليه الصلاة والسلام للوقر الذي كان في أذنيه فوسعوا له حتى قرب، ثم ضايقه بعضهم وجرى بينه وبينه كلام، ووصف للرسول محبة القرب منه ليسمع كلامه، وإن فلانًا لم يفسح له، فنزلت هذه الآية، وأمر القوم بأن يوسعوا ولا يقوم أحد لأحد، الثالث: أنهم كانوا يحبون القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الرجل منهم يكره أن يضيق عليه فربما سأله أخوه أن يفسح له فيأبى فأمرهم الله تعالى بأن يتعاطفوا ويتحملوا المكروه وكان فيهم من يكره أن يمسه الفقراء، وكان أهل الصفة يلبسون الصوف ولهم روائح، القول الثاني: وهو اختيار الحسن أن المراد تفسحوا في مجالس القتال، وهو كقوله: {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121] وكان الرجل يأتي الصف فيقول تفسحوا، فيأبون لحرصهم على الشهادة والقول الثالث: أن المراد جميع المجالس والمجامع، قال القاضي: والأقرب أن المراد، منه مجلس الرسول عليه السلام، لأنه تعالى ذكر المجلس على وجه يقتضي كونه معهودًا، والمعهود في زمان نزول الآية ليس إلا مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يعظم التنافس عليه، ومعلوم أن للقرب منه مزية عظيمة لما فيه من سماع حديثه، ولما فيه من المنزلة، ولذلك قال عليه السلام: «ليليني منكم أولو الأحلام والنهى».
ولذلك كان يقدم الأفاضل من أصحابه، وكانوا لكثرتهم يتضايقون، فأمروا بالتفسح إذا أمكن، لأن ذلك أدخل في التحبب، وفي الاشتراك في سماع مالا بد منه في الدين، وإذا صح ذلك في مجلسه، فحال الجهاد ينبغي أن يكون مثله، بل ربما كان أولى، لأن الشديد البأس قد يكون متأخرًا عن الصف الأول، والحاجة إلى تقدمه ماسة فلابد من التفسح، ثم يقاس على هذا سائر مجالس العلم والذكر.
أما قوله تعالى: {يَفْسَحِ الله لَكُمْ} فهو مطلق في كل ما يطلب الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة.
واعلم أن هذه الآية دلت على أن كل من وسع على عباد الله أبواب الخير والراحة، وسع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة، ولا ينبغي للعاقل أن يقيد الآية بالتفسح في المجلس، بل المراد منه إيصال الخير إلى المسلم، وإدخال السرور في قلبه، ولذلك قال عليه السلام: «لا يزال الله في عون العبد ما زال العبد في عون أخيه المسلم».
ثم قال تعالى: {وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قال ابن عباس: إذا قيل لكم: ارتفعوا فارتفعوا، واللفظ يحتمل وجوهًا أحدها: إذا قيل لكم: قوموا للتوسعة على الداخل، فقوموا وثانيها: إذا قيل: قوموا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تطولوا في الكلام، فقوموا ولا تركزوا معه، كما قال: {وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحديث إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النبي} [الأحزاب: 53] وهو قول الزجاج وثالثها: إذا قيل لكم: قوموا إلى الصلاة والجهاد وأعمال الخير وتأهبوا له، فاشتغلوا به وتأهبوا له، ولا تتثاقلوا فيه، قال الضحاك وابن زيد: إن قومًا تثاقلوا عن الصلاة، فأمروا بالقيام لها إذا نودي.
المسألة الثانية:
قرئ: {انشزوا} بكسر الشين وبضمها، وهما لغتان مثل: {يَعْكُفُونَ} و{يَعْكُفُونَ} [الأعراف: 138]، و{يَعْرِشُونَ} و{يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137].
واعلم أنه تعالى لما نهاهم أولًا عن بعض الأشياء، ثم أمرهم ثانيًا ببعض الأشياء وعدهم على الطاعات، فقال: {يَرْفَعِ الله الذين ءامَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم درجات} أي يرفع الله المؤمنين بامتثال أوامر رسوله، والعالمين منهم خاصة درجات، ثم في المراد من هذه الرفعة قولان: الأول: وهو القول النادر: أن المراد به الرفعة في مجلس الرسول عليه السلام والثاني: وهو القول المشهور: أن المراد منه الرفعة في درجات الثواب، ومراتب الرضوان.